تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


باطوس أبي خيرات

معاً على الطريق
الجمعة 1-11-2019
ديب علي حسن

حين أرخى الليل بعض سدوله نادى الأب ابنه الأوسط فور عودته من ملاعب الشقاوة التي جبلت من تراب وحصى والكثير من المسابقات التي لا تخلو من شغب محبب وعراك ينتهي بالصلح قبيل انفضاض الجمع إلى البيوت... يا بني اذهب وأخبر فلاناً وفلاناً أن يكونوا غداً عندنا صباحاً.. قل لهم أبي يحتاجكم بعمل ما...

أكثر من عشرين شاباً كانوا صباحاً أمام البيت.. همسات وكلام وتوزيع مهام.. كان أبو خيرات يبدو زعيماً وهو ينتقي الأشداء منهم ليكونوا في الصف الأول، وآخرون في الوسط، ولا بأس من حضور الصغار فهم كما قال يقدمون خدمات مفيدة.‏

شعر الفتى الذي تولى مهمة الإبلاغ أن الأمر عمل جماعي لكن ما هو..؟ لا يعرف، لكنه حين اندس بين الصفوف عرف أن الأمر يتعلق بتجهيز المعصرة اليدوية..‏

لم تكن مكابس الزيتون قد بدأت بعد.. والمعصرة لمن لا يعرفها قسمان: الباطوس الذي يطحن حبات الزيتون بعجلة من حجر قاس جداً يصل وزنها إلى الطن على الأقل، تدار بواسطة خشبة يحركها الشباب.. وبعدها إلى المعصرة التي تحتاج أيضاً إلى ثقال وطنب خشبي طويل يصل إلى العشرة أمتار يحمل الثقلين في مقدمته ومؤخرته وغالباً ما يكون من الحور أو البلوط.. ولأن معصرة أبي خيرات تقدم خدماتها مجانية للجميع لم يتوان أي من الشباب عن المساهمة في نقل حجر الباطوس التي تزن طناً وقد ربطت بالحبال.. وعلى مدى أيام كانت تتركز في مدارها .. ولابد من تجديد الطنب كما جددت الحجر..‏

جال أبو خيرات في غابات القرية مفتشاً عن شجرة سامقة تصلح للغاية.. وبعد عناء يومين وجد ضالته في غابة تبعد أكثر من ٦ كيلومترات، وهي بعد الوادي السحيق ...‏

أعدت الشجرة للغاية المطلوبة وتكفل الشباب بحملها جذعاً كبيراً إلى المكان المحدد، وعلى الرغم من وعورة الدرب وتعرجاته وثقل الجذع كان العمل ممتعاً ترافقه روح الشباب الذين تباروا في من يكون في المقدمة أو المؤخرة...‏

وصل الطنب إلى المكان وجهزت المعصرة وبدأت آلة العمل تدور.. مساءات من أمل وعطاء ساعدا أبي خيرات تشدان الحبل الذي يوازن الثقلين لينهمر الزيت ندياً بهياً...‏

وعلى مصطبة التنور أكداس من الأرغفة التي وضعت لمن يريد أن يتذوق الزيت الشهي..‏

وحين يبدأ موسم التعبئة ثمة من ينادي «هذه لبيت فلان ليس لديهم زيت..» توزع حصصاً يقول موزعوها إنها البركة التي لا بد منها... الكل في عرس العمل الجماعي.. يمضي شهر ونيف وحجر الباطوس تدور وتدور ومعها قصص وحكايا..‏

أمس مررت قرب الباطوس الذي بقي صامداً على الرغم من نوائب الدهر.. الحجر مكانها منذ عشرين عاماً ونيف لم تتحرك، وشجيرات بطم نمت قرب المكان... لم يعد الزمن هو هو.. تغيرت الحكايا وضاع العمل الجماعي وضاعت معه حكايا الدفء والعطاء.. تغير كل شيء.. بدا الزيت مزاً مراً كالحاً.. حتى شجيرات البطم القريبة بدت هرمة لم تعد تؤنسها حكايانا.. فانزوت حتى صارت إلى اليباس.. كل شيء غدا معلباً للاستهلاك.. لا الحكايا ولا فزعة العمل الجماعي... قمحل المكان.. لكن عشباً ينبت كل عام في المكان يبحث عن أصحابه يروي بعض الحكايا فلا يجد من يصغي فيمضي على أمل العودة.. وعلى بعد عشرات الأمتار من الباطوس كان ضريح أبي خيرات قرب شجرة تين شتوي، وعلى بعد مترين من جب ماء حفر في الصخر ليكون ماء سلسبيلاً لمن يمر بالمكان... تلك بعض السطور من صفحات كان الباطوس يكتبها ويرويها...‏

نسيت أن أقول إن كلمة الباطوس ربما معربة أو هي من فعل بطش وتم تحويرها.. وفي آثار الساحل ستجد معاصر دهرية كان القدماء قد بنوها من أجل الزيت أو النبيذ..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 ديب علي حسن
ديب علي حسن

القراءات: 735
القراءات: 738
القراءات: 768
القراءات: 661
القراءات: 674
القراءات: 758
القراءات: 823
القراءات: 767
القراءات: 634
القراءات: 834
القراءات: 738
القراءات: 714
القراءات: 705
القراءات: 722
القراءات: 704
القراءات: 659
القراءات: 815
القراءات: 680
القراءات: 753
القراءات: 725
القراءات: 789
القراءات: 761
القراءات: 778
القراءات: 706
القراءات: 752

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية