تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أسعد الجبوري:الحرب أطنان من الهواء المتوفى مُناخ الفيروسات.. ومناجل العدم

ثقافة
الجمعة24-1-2020
هفاف ميهوب

بقفزاته الجريئة على «حيطان الكتابة» تجاوز «المعقول واللامعقول» دون أن يبالي بخبايا المجهول.. بتصاعدِ قفزاته ومقالته: «امنحوا حناجركم للشعب» حلَّق تاركاً مطارديه، يتلاطمون جهلاً من وعي رسالته:

‏‏

/حتى في النهار/ لا تعتمدْ على نورٍ سواك/ كنْ لمبّة نفسكَ منتجاً للنظائِر المُشِعَّة على خطِ الاستواء/.‏‏

إنه الشاعر والروائي العراقي «أسعد الجبوري» الذي ما كان منه وبعد تلك القفزات، إلا أن جنّد «الإمبراطور» للبحث عن كلّ المبدعين في عالمِ الأحياء والأموات،أيضاً، لمحاكمة الجهلِ حتى ولو بالمتخيّل من «أولمبياد اللغة المؤجَّلة»، وبإبداعاتٍ متوالية وعاجلة.‏‏

هذا جزءٌ مما قرأناه من بريده، لا من «بريد السماءِ الافتراضي».. نعاودُ قراءتنا لهُ بلا «ممحاة»، وعبر حوارٍ يتناول المُعلن والمخفي.‏‏

- نبدأ بسؤاله عن نفسه، فتردُّ حنجرته بصوتِ بلده:‏‏

--- أنا العراقيُّ/ وقد فككتُ أضلاع صدري/ فاخرجي يا شمسُ أغنيةً من قمقمِ الوطنِ الحزين/.‏‏

إنني طائرٌ شبيه بالعنقاء.. شاعرٌ مقطوع من شجرة غرائبية الجينات، بلا أبٍ.. بلا غابة، ولا ينتمي لجماعة جلجامش أو يريد السعادة العابرة..‏‏

أنا خليفة مطبوعاتي وإمام كلماتي.. هي رعيَّتي وأنا الراعي في باطنِ اللغة، وعلى ظهر الورق، وفي مجرى التاريخ أيضاً.‏‏

- هكذا عرَّف نفسه، وهو المتفرِّد بتمرُّدٍ جعله يقتحم عالم الموتى لإحياءِ «شعراء نائمون في غرفِ الغيب».. يستنطقهم ويحاكمهم، ويودع أسرارهم:‏‏

-- في «بريد السماء الافتراضي» وبمجرد استحضار الشاعر، سرعان ما أفتح الأبواب للأسئلة بأن تتقدَّم وتقتحم كل المناطق دون خطوط حمراء أو زرقاء.. أفعل ذلك، لتحريك عضلات الشعر، وجعله تمريناً نابضاً بحياة ما بعد الموت.. لخلق طقوسٍ معاصرة لشعراء الزمن الغابر، مع خلق علاقات ما بين شعراء العرب والغرب، من خلال وجودهم المشترك في السماوات أو تحت الأرض في المدافن الكبرى..‏‏

هكذا كان الابتكار للبريد، خرقاً للمعهود المتعارف عليه أدبياً، ودون مرجعيات سوى المخيّلة الجبارة، قائدة النصوص ومدربة الأرواح على الحب والشعر والشهوة العابرة للحدود جغرافياً وتكويناً نارياً.‏‏

إنها الفرادة في خلق الأسئلة، والتفرد بالكشف عن طقوس الأنفس العميقة، والاستفراد بصناعة أدب جديد في التاريخ.‏‏

- يفعل ذلك بلغةٍ مزلزلة في سخريتها، ومن كائنات الحياة وطواويس قوافيها المتعفنة في بلادتها، اللغة الفضاء، التي قال عنها ذات لقاء:‏‏

-- ليستْ اللغةُ داراً للعِبادة ولا للعَجزة، وليست صالوناً تحتلُ كراسيهِ المعاجمُ والقواميس والموسوعات، بل هي فضاءاتٌ تبرقُ فيها الأنجمُ والمشاعرُ وكائنات الحواس..‏‏

اللغةُ هي الشِعرُ بالضبط، ولا يمكن إقامة نظام لغويّ حديث على ورقِ البردي أو جلود الحيوانات،فالكلماتُ مخلوقاتٌ تريدُ تحديثَ نَّسْلها باستمرار كي تطرَد القباحةَ من على وجهها، ودون أن تنسى تطهير دمها من بكتريا عمال الحفريات، ممن يناضلون لجعل اللغة ضريحاً مشمولاً بقوانين المقدسات!!..‏‏

- إنها اللغة التي لا تعترف بالزمن البيولوجي وإنما المعرفي. الزمن الذي تعدَّد وصفه لديه، ومنه ما رآه فيه:‏‏

-- الزمن نقطة واحدة لاغير.. نقطة طائشة.. نقطة تجتمع عليها شعوب الأرض، باكية قبل حفلاتِ الوداع.‏‏

بعد فشل الزمنِ بإسعاد البشر، وتنمية قوى السموّ المُناوِئ للظلام، على مدار قرون من التاريخ الحربي المسكون بحمى الحديد والأفاعي والذئاب والديكتاتوريات، فإن العالم بحاجة إلى خلق سنواتٍ غير فيزيائية،سنوات يعشيها المرءُ باللمسّ العاطفي، أو التركيب الضوئي المنتج لعقول وأفئدة وأرواح مرئية، وليستْ سنوات بأيام مثقوبة بالرصاص وساعات بأفواهٍ رملية ودقائق للوداع على حافة الهاوية وثوانٍ لركوب الجنائز.‏‏

- في روايتيه «الحمى المسلحة» و»سائق الحرب الأعمى» يسعى إلى تفخيخ النصوص كي تتفجَّر.. يتأملها فتشتعل وتتلظى أكثر.. نسأله عنهما، فيردُّ بأنهما:‏‏

-- في هاتين الروايتين، مواجهة للعنصرية والديكتاتورية وإرهاب الفرد وكائنات الحرب.. فيهما، ساحة الحرب والزواحف الرملية الصحراوية، والمواد الكيمياوية التي استخدمتها أميركا في حربها على العراق.. فيهما، كل ما جعل «الذهاب نحو الخليج، لا يُعد رحلة في صحارى تلك البلدان، بقدر ما هي مهمة موت»..‏‏

- يردُّ أيضاً، ولدى سؤاله عن روايته التي تؤرخ وحشية الحربٍ على الوطن السوري، وسموم «ثعابين الأرشيف» السياسي والديني والظلامي.‏‏

---الرواية عن حروب الربيع الأسود المدعوم من الفكر السلفي،ثقافة الساطور الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يرى ولا ينطق ولايشمّ ولا يسمع، لأن حديده يستعين بيد القاتل وحسب.‏‏

فيها وثّقتُ ما كان غائباً عن العقل العربي، استخرجتهُ من كهوف التاريخ الجاهلي، لأمضي به مرفوعاً إلى منصات أيامنا المعاصرة، لم يكن التدوين إلا من وثائق الأسلاف، ممن تمت الاستعانة بهم كشهود على جذور الإرهاب الفكري والتحريم. فأصول التكفير كانت كلها من تربة العقل العربي القديمة، التي يقوم الخلفاء بحفرها وقلّبها وإعادة إنتاجها من جديد.‏‏

«ثعابين الأرشيف» هي رواية الموت الذي يتربص بالناس في كلِّ مكان، دون أن يتمكن الزمن من التحكّم بمواقيته، بعد أن تمّت تعبئة ساعة الحياة بالدم والدخان والعويل الذي لم يعد يتحمّل الخروج من الباطن البشري.. البرابرة الذين هبوا على البلاد، حملوا بدل أنخاب الخمر سيوفاً ورايات سوداء، كلّ منها تحمل اسم الله ورسوله بطريقة مميزة عن الراية الثانية والثالثة والرابعة والخامسة، حتى ليظنّ المرء بأن الله الواحد، قد تعدّد ليصير بعدد الآلهة التي تحمل تفويضاً واحداً أحداً،الموت للآخر وبأبشع صور القتل..‏‏

- وثَّق كلّ ذلك، وهو يضع «كائنات الحرب» والأرض الدموية على حدِّ سكين اللغة، إلى أن أصبحت النهاية المأساوية:‏‏

---أصبح الدّم جزءاً من بنية الرّواية العربية، ربما لأنه بات الدينامو الذي يمنحها بروتينات النمو والانتشار في ذهن القارئ العربي القلق الميت،القارئ المُفجَع الجائع، القارئ المشرد المقهور،القارئ الجريح المُستَلب،القارئ كشريك حرب ودمار وهجرة وتبدد وعذاب رغْم أنفِه.‏‏

هنا الحربُ أطنانٌ من الهواء المتوفى /من المقاصلِ المرسوم بماكياج من الدمع والإسفلت والصقيع/ أهي بلادٌ في فراش/ ويكثرُ حولها حاملو التوابيت والفيروسات /ومناجل العدم؟!..‏‏

- أخيراً، نسأله عن مسقطِ عشقه.. «دمشق» التي غادرها جاعلاً من ياسمينها عطره.. نسألهُ كيف عانقها، وماذا يقول لها:‏‏

-- ويا ماراً بالشام تذكرْ.. الشمس شمسان.. شمسٌ أنتَ ترسمُها، وشمسٌ من عليّ أُنزلتْ شاماً وبها يُمحى الظلام.. قولٌ من لغةٍ أخذتْ بلاغتُها شكلَ حُلمٍ متوجٍ بأجنحةٍ ونجومٍ، وهي البلاد الهائمة كالرعدِ في الأعين أو بين خزائن السحاب.‏‏

بلادٌ كأنها الأولى، ونشرناها ورداً وتروساً وحروفاً على خريطة من استبرق وقمحِ مُنمنمٍ بآياتٍ من حرير. بلادٌ كالثمرةِ العملاقةِ، حولها أفلاكٌ من الحرّاس، ونساكٌ يهدهدون الوقتَ كي لا تنام المصابيحُ في دمشقَ.‏‏

أرضٌ كأن تربتُها كتبٌ توردتْ بهوى الأرواح وما تعشق،هي ذي الأوغاريتيةُ جَمالاً أبجدياً مُعتقاً، ومنها الحَمامُ بالصوت والصورةِ، وما تبقى في المتيم من نحوٍ وصرفٍ وهيام.‏‏

تقولُ دمشقُ: /شَعري الليلُ وقامتي النهارُ/ وأنا في الغرامِ لمبةٌ ترفض/ الذئبَ في غرفة النوم/.‏‏

نختم بقوله هذا عن دمشق، ليكون مانقوله لها وبلسانِ هذا المبدعِ الذي أوفى لها العشق: متى يحينُ موعدَ التكريم، لهذا العشق الحديث - القديم؟...‏‏

بطاقة‏‏

شاعر وروائي ومؤلفٌ عراقي مقيم في الدنمارك.‏‏

له أكثر من 13 ديوان شعر.. أيضاً، «نانو» وهي تجربة في كتابة الشعر المضغوط والمكثف.. «طيران فوق النهار» و«الإمبراطور».‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية