تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


رأي: إن أورثتـك الأسـاطير شـرورها.. فالحقيقـة في روحهـا

ثقافة
الأحد12-1-2020
هفاف ميهوب

كلّما رأيتُ شرور وأحقاد وأطماع الإنسان، تستفحل في هذا الزمن المدمَّى، تذكرتُ أسطورة «جيجس» الذي كان راعياً لدى ملك «ليديا».. المملكة التي داهمتها ذات يومٍ الأمطار والعواصف الهوجاء، فتصدَّعت أرضها وأحدثت تحت قدمي هذا الراعي هوة عميقة، نزل فيها مندهشاً وهو يرى:

‏‏‏‏‏

«رأى حصاناً من نحاسٍ فيه العديد من الأبواب الصغيرة، دخل إحداها فوجد جثة أطول من جثة الإنسان العادي، وفي يدها خاتم من ذهب. أخذه ووضعه في إصبعه، فإذ به يشعر بأنه قد اختفى. كرّر الأمر مراراً، وفي كلِّ مرة كان يختفي. جلس يفكّر في حاله، وفيما هو فاعل بمستقبله، فقرر وبعد أن اكتشف أنه غير راضٍ عن حياته، أن يبدأ حياة جديدة تسعده.‏‏‏‏

قرّر ذلك، فكان أول ما خطر له، الذهاب إلى قصر الملك وقتله والاستيلاء على السلطة، ثم الزواج من الملكة.. نفّذ ما قرّر أن يفعله، وكان يرتدي الخاتم الذي حجبه عن أعين الحراس، ما أثار استفزازهم مثلما عجزهم، عن معرفة المجرم الذي توالت شروره وأثارت الرعب والخوف بين الناس..»‏‏‏‏

حتماً، لم أرد من استدعاء هذه الأسطورة، إلا تبيان مقدار الشرور التي تعتمل في نفس الإنسان. الإنسان الذي استلَّ وعلى مدى العصور، سلاح الظلم ليحارب العدل.. الجشع الذي قضى به على القناعة والشبع. أيضاً، الجهل والحقد والغدر وسواهم مما استشرى فيه كوباءٍ أزهق العقل.. الأهم والأكثر بُعداً عن الإنسانية، إجرامه الذي بلغَ في تبنّيه حداً، تجاوز كل المعايير والقيم الأخلاقية.‏‏‏‏

أتساءل هنا، هل هي التكنولوجيا التي تسلّلت إلينا عن سابق قصدٍ ووعد، بأن يكون ذاك الخاتم الغريب والمستجيب. تماماً، كما وسائلها ورسائلها.. الوسائل التي أغرت الإنسان بالدخول إلى الغامض من خفاياها، والرسائل التي أدهشته لما قرأ فيها فرصته، فانقادَ مُستلَباً إلى الهوة التي أرادها له المتحكمون بمضمونها ونواياها؟!!..‏‏‏‏

نعم، هذا ما تساءلتُ عنه، وبعد أن عجزت عن معرفة أسباب تهافت الإنسان على موروثٍ شيطاني لا يريدُ خلعه عنه.. الموروث الذي سرى فيه بأبشع وأفظع الحكايا التي شكّلت بمفردات شرورها، زمرة أحقاده الدموية.. الزمرة غير القابلة إلا للأخذ، ممن لا يُعطى لهم، أو يَتقبَّل دمهم، إلا الزمر السلبية.‏‏‏‏

تساءلتُ أيضاً، لِماذا لمْ نرث من «جمهورية أفلاطون» الذي ما أورد فيها هذه الحكاية، إلا ليُرينا مقدار أهمية العدالة في حياةٍ يوغلُ الأشرار فيها بالإساءة إليها مثلما في قتلنا وتدميرنا.. لِماذا لمْ نرث، شيئاً مما تسعى إليه هذه الجمهورية، وبأخلاقية فحواها وعقلانية مسعاها، وغير ذلك مما يرتقي بنا؟..‏‏‏‏

ربما السبب في الإنسان نفسه، أو ربما في قوة الشرور والأحقاد وقدرتهما على إغراقه، بما لا ينجيه منه عقله أو وعيه أو حتى حدسه.‏‏‏‏

الشرور والأحقاد التي نعيشها في عالمٍ لن تكون حكاياه البشعة أبداً منسيّة.. لن تكون أيضاً، إلا إرثاً يُضاف إلى إرثٍ أوغل في جعل الإنسان يتشظى في مهبِ حياة، بات فيها رمزاً لكل حكايةِ نشعرُ وكأن وقائعها تحدثُ في غاباتٍ مليئة بكائنات غير أدمية..‏‏‏‏

هذا ليس تشاؤماً بل واقع. حقيقةٌ تؤكدها يوميات الأخبار والأحداث التي نسمعها أو نشهد منها: شقيقٌ يقتل شقيقاً.. ابنٌ عاقٌ يطعن والدته أو والده أو حتى صديق.. امرأة تهرب من أطفالها أو تقتلهم، وأبٌ يهجرهم أو ينحرهم.. أطفالٌ يرتادون أوكار الشرّ ويتدربون على أيدي قطاع أوصال الحياة، وحكاية عنهم تليها أخرى، وتتوالى حكايات.‏‏‏‏

لاشك أنها وقائعٌ إشكالية، جعلت الأسطورة تعود من جديد لتؤسس خطابات بعضها إيديولوجي والآخر معرفي. خطابات لن تكون فعالة إلا إن كان منبرها العقلِ، وصوتها بالحكمة الأفلاطونية:‏‏‏‏

«إن تعبتَ في الخير، فإن التعب سيزول والخير سيبقى، وإن تلذَّذت بالآثام، فإن اللذة ستزول والآثام ستبقى... يجب أن تذهب إلى الحقيقة بكلِّ روحك.. ليست العدالة هي القوة المجردة، ولا حق القوي، إنما هي تعاون كل أجزاء المجتمع تعاوناً متوازناً فيه الخير للكلِّ.. من يأبى اليوم قبول النصيحة التي لا تكلف أي شيء، سوف يضطر في الغد إلى شراء الأسف الذي سيكلفه أغلى ثمن»..‏‏‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية