تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


«فائضون عن اللزوم».. و«البراهين تثير نفورهم»

ثقافة
الثلاثاء 27-8-2019
هفاف ميهوب

يقول الشاعر والفيلسوف الألماني «نيتشه»: «الرعاع اعتنقوا معتقداتهم من دون براهين، فكيف يمكنك أن تقنعهم بزيفها من خلال البراهين؟.. إن الإقناع في سوق الرعاعِ لا يقوم إلا على نبراتِ الصوت وحركات الجسد، أما البراهين فتثير نفورهم»...

قولٌ، اضطررنا لاستدعائه بسبب ما استشرى في هذا الزمن من معتقداتٍ لاعقل يقبل بها، أو أخلاق ترتضي فعلها.. معتقداتُ رعاعٍ هم بالمعنى اللغوي «غوغائيون-سفلة» ينظرون بخبثٍ إلى هذه الحياة.. بحقدٍ يجعلهم يهيمون بهمجيةٍ بهيمية، تضمرُ الموت للعقلاء، وتفتعله بأفكارٍ تنساق وراء قناعاتها وغرائزها العمياء..‏

إنهم، من سمّاهم هذا المفكر «الفائضون عن اللزوم».. العشوائيون، المخرّبون، الظلاميون، المتوحشون، الدمويون.‏

هم أيضاً وللأسف، مثقفون ومفكرون ورجال دين وسياسيون، شكَّلوا وكما شهدنا على مدى الأوضاع التي عاشتها مجتمعاتنا، قطيعاً من المنقادين انحداراً وراء خطابٍ «ديني -طائفي» أو «بدائي-سلفي» أو «إيديولوجي-لاعقلي».. شكلوا ذلك، فاستحقوا أن نواجههم بقول «نيتشه»:‏

«تحشون أفواهكم بالكلمات والعبارات البراقة لكي تقنعونا بأنكم جيدون، وما أنتم إلا حفنة رعاع، لو أتيحت لكم الفرصة لقتلتمونا ألف مرة».‏

لاشك أنها ظاهرة تشكِّل أكبر الخطر على مجتمعاتنا.. ظاهرة الفكر المدمِّر الذي تبناه كُثرٌ ممن سعوا لتدمير وتشويه إرثنا وفكرنا وحضارتنا.. لذبحِ وسلخِ وتقطيع وحرق إنساننا، وعلى مرأى من العالمِ الذي يشهدُ بشاعة اقترافاتهم، دون أن يتحرك ضميره إلا لصالحِ مصالحهُ التي يمررها عبر آلامنا..‏

نعم.. هذا ما يفعله العالم أمام واقع استفزازي-دموي.. أمام تغييب العقل واستحضار الجهل. اغتيالِ الوعي البناء، ونشرِ البهيمية العمياء.. تفشي البشاعة والشرور والأحقاد، وتغييب الجمال والمحبة والتسامح لدى العباد.‏

إذاً، علينا السعي ما ملكت أخلاقنا لمواجهة غوغاءِ الرعاع-السفلة. علينا رفض أفكارهم وظلامهم وأحقادهم وإجرامهم ودأبهم على إثارة الفوضى والفساد والفتنة.. أيضاً، علينا ألا ننسى ما اقترفوه من أعمال تخريبية -إجرامية، وليس فقط بحقِّ إنساننا وعلمائنا ومخترعينا، وإنما أيضاً بحقِّ ثقافتنا ونُصبُ قاماتنا العظيمة في عطاءاتها الفكرية والإنسانية.‏

حتماً لن ننسى، وسنبقى نراهم كما رآهم العديد من الفلاسفة الذين أقاموا سجالات طويلة حولهم.. سنبقى نراهم، كما رآهم الفيلسوف الإنكليزي «توماس هوبز» الذي وصف «الهمجي» بأنه «بشع» و»ذئب لأخيه الإنسان»، ولا «يمكنه التعايش مع بني جنسه في سلام، إلا بوجود قواعد لكبح جماح غرائزه وشهواته، وردعه عن شنِّ «حرب الكل على الكل».‏

لن ننسى، وستبقى اللعنة الكبرى على صنّاعِ هؤلاء «الفائضون عن اللزوم».. على أميركا وإسرائيل والغرب الحاقد، وبشهادة كُثر من أبنائهم الذين كان رأيهم كرأي «جان بودريار».. المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي الذي كرّس مؤلفاتٍ عديدة للحديث عن سعي النظام العالمي الجديد لمواجهة من يخرج عنه بالقوة.. «قوة الجحيم» الكتاب الذي انتقد فيه الإمبرياليَّة الغربيَّة التي تتحكَّم بالعالم وتسعى لإخضاع الثقافات المتعددة لقانون المعادلة القهري، وبكافة الوسائل التي تجعل هذا النظام لا يتحمَّل أن يقف بلد ما في مواجهته.‏

هو أيضاً، رأي الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي «إدغار موران» في «ثقافة أوروبا وبربريتها»، حيث العنف الكارثي الذي انبثق من قلب حضارتها ومشاريعها الاستعمارية. المشاريع التي جعلتها تحكم بالحديد والنار، وبهمجية تجذَّرت فيها فزادت من تخلفها الأخلاقي والإنساني، مثلما من تغوّل مصالحها وبورصاتها التجارية.‏

إنه رأيٌ، قدمه بعد مسيرة حافلة بالبحث والنظريات والمؤلَّفات التي جعلته يستنتج «أن البربرية ليست مجرد عنصراً يرافق الحضارة، وانما هي جزء لا يتجزأ منها، فالحضارة تولد البربرية، ولاسيما عندما تنطلق من الغزو والسيطرة».‏

استنتج أيضاً، بأن التفكير المادي لا الإنساني للحضارة الغربية-الانتهازية، قد أدى إلى فقدان الاحساس بالانتماء إلى المجتمع وإلى الوطن، ومن ثَمَّ تدهور مفهوم المواطن، وفي مرحلة وجد فيها بأن التعصب والتفكير الإرهابي يزداد ويأخذ أبعاداً معقدة سببها:‏

«العنف المبالغ فيه، من طرف القوى العظمى القادمة إلى الشرق، بترسانتها الحربية المتطوِّرة.. وتظهر اليوم، على صورة ما يطلق عليه «داعش» التي قدمت نفسها بطريقة بشعة جداً..».‏

باختصار.. الحضارة التي تصدرها أميركا والغرب، ليست إلا «حضارة الموت».. حضارة تسعى إلى «إدارة التوحش» عبر لغة نخبوية إعلامية وفكرية. لغة تتجاوز كل الأبجديات في سعيها لجعل العالم يقرأ صور الدمار والموت والخراب، وبلغتها الديمقراطية-الدموية.‏

نقرأ ونلعن التوحشّ ومصدِّره.. يقرأ معنا العالم بأكمله.. يقرأ صور الموت بصمت.. يقرأ برعبٍ، وعلى مدى الوقت.. يرى الرعاع يُقتادون بأمرِ عدو حاقد ولئيم.. يشهرون ساطور بربريته، فيتهاوى العقل مثلما هذا العالم الآيلُ أيضاً إلى الجحيم..‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية